مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْبَشَرِ، وَجَعَلَ الرِّسَالَةَ اصْطِفَاءً مِنْهُ وَاخْتِيَارًا؛ ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ، هَلْ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ يَرْفُضُونَهُ، وَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ:
﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ كَانَ الْجَوَابُ عَلَيْهِمْ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 124]، وَكَوْنُ الرَّسُولِ مِنَ الْبَشَرِ وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَّةً امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى الْبَشَرِ، وَنِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ لَعَجَزُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، فَالْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 19-20].
وَمِنْ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ فِي رَفْضِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَهُمْ يُرِيدُونَ رُسُلًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ فَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى اسْتِنْكَارِهِمْ:
﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: 94-95].
وَتَارَةً يَطْلُبُونَ تَأْيِيدَ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ بِمَلَكٍ مَعَهُ يَشْهَدُ لَهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَهِيَ حُجَّةٌ لِلِاعْتِرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَلَيْسَتْ لِلتَّحَقُّقِ وَالِاتِّبَاعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَيَّدَ الرُّسُلَ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَرْسَلَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَلَوْ أُعْطِيَ الْمُشْرِكُونَ مَا طَلَبُوا لَمَا آمَنُوا:
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 8-9]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى:
﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: 7].
وَامْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأُمَّةِ الْخَاتِمَةِ بِأَنْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 164]، «أَيْ: مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ»، وَذَلِكَ أَدْعَى لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَقَبُولِهَا وَاتِّبَاعِهِ فِيهَا؛ وَذَلِكَ اسْتِجَابَةً لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَإِنَّهُ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ:
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: 129]. وَقَالَ تَعَالَى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: 128]، «وَهَذَا يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَخَالِصِهَا». وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَشَرِ قُدْرَتُهُمْ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ فِي بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِكَمَالِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ مِمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى تَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ؛
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الْجُمُعَةِ: 2]، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّجَاشِيِّ يَصِفُ لَهُ
دَعْوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ لَأَنْكَرَ النَّجَاشِيُّ قَوْلَ جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ لَهُ عِلْمٌ بِالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ؛ وَلِذَا آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ. وَفِي مُقَابَلَةِ أَبِي سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: «كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ... وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ هِرَقْلُ لِلتُّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَانَ هِرَقْلُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَادَ أَنْ يُؤْمِنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمُلْكِهِ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى، فَخَسِرَ الْإِيمَانَ وَذَهَبَ مُلْكُهُ.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمن، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.