آخر 6 مواضيع |
|
|
القسم الاسلامى العام ( General Islamic Forum ) |
#23
|
|||||
|
|||||
إسماعيل عليه السلام نبذة: هو ابن إبراهيم البكر وولد السيدة هاجر، سار إبراهيم بهاجر - بأمر من الله - حتى وضعها وابنها في موضع مكة وتركهما ومعهما قليل من الماء والتمر ولما نفد الزاد جعلت السيدة هاجر تطوف هنا وهناك حتى هداها الله إلى ماء زمزم ووفد عليها كثير من الناس حتى جاء أمر الله لسيدنا إبراهيم ببناء الكعبة ورفع قواعد البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجر وإبراهيم يبني حتى أتما البناء ثم جاء أمر الله بذبح إسماعيل حيث رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه فعرض عليه ذلك فقال "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ففداه الله بذبح عظيم، كان إسماعيل فارسا فهو أول من استأنس الخيل وكان صبورا حليما، يقال إنه أول من تحدث بالعربية البينة وكان صادق الوعد، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان ينادي بعبادة الله ووحدانيته. سيرته: الاختبار الأول: ذكر الله في كتابه الكريم، ثلاث مشاهد من حياة إسماعيل عليه السلام. كل مشهد عبارة عن محنة واختبار لكل من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. أول هذه المشاهد هو أمر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم بترك إسماعيل وأمه في واد مقفر، لا ماء فيه ولا طعام. فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا الاستجابة لهذا الأمر الرباني. وهذا بخلاف ما ورد في الإسرائيليات من أن إبراهيم حمل ابنه وزوجته لوادي مكة لأن سارة -زوجة إبراهيم الأولى- اضطرته لذلك من شدة غيرتها من هاجر. فالمتأمل لسيرة إبراهيم عليه السلام، سيجد أنه لم يكن ليتلقّى أوامره من أحد غير الله. أنزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام، وقليلا من الماء. ثم استدار وتركهما وسار. أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء؟ لم يرد عليها سيدنا إبراهيم وظل يسير.. عادت تقول له ما قالته وهو صامت.. أخيرا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه.. أدركت أن الله أمره بذلك فسألته: هل الله أمرك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه السلام: نعم. قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا. وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) (إبراهيم) لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك حكمة عليا في أمر الله سبحانه لإبراهيم، فقد كان إسماعيل -الطفل الذي تُرِكَ مع أمه في هذا المكان- ووالده من سيكونان المسؤولان بناء الكعبة فيما بعد.. وكانت حكمة الله تقضي أن يسكن أحد في هذا الوادي، لميتد إليه العمران. بعد أن ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء بأيام نفد الماء وانتهى الطعام، وجف لبن الأم.. وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش. بدأ إسماعيل يبكي من العطش.. فتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء.. راحت تمشي مسرعة حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا".. فصعدت إليه وراحت تبحث به عن بئر أو إنسان أو قافلة.. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة"، فصعدت إليه ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا. وعادت الأم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه.. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه.. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين.. سبع مرات وهي تذهب وتعود - ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث.. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش. وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكي فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم.. وفار الماء من البئر.. أنقذت حياتا الطفل والأم.. راحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله.. وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة.. صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا. وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة.. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من الناس.. وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان. كانت هذه هي المحنة الاولى.. أما المحنة الثانية فهي الذبح.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#24
|
|||||
|
|||||
يوسف عليه السلام نبذة: ولد سيدنا يوسف وكان له 11 أخا وكان أبوه يحبه كثيرا وفي ذات ليلة رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فقص على والده ما رأى فقال له ألا يقصها على إخوته، ولكن الشيطان وسوس لإخوته فاتفقوا على أن يلقوه في غيابات الجب وادعوا أن الذئب أكله، ثم مر به ناس من البدو فأخذوه وباعوه بثمن بخس واشتراه عزيز مصر وطلب من زوجته أن ترعاه، ولكنها أخذت تراوده عن نفسه فأبى فكادت له ودخل السجن، ثم أظهر الله براءته وخرج من السجن ، واستعمله الملك على شئون الغذاء التي أحسن إدارتها في سنوات القحط، ثم اجتمع شمله مع إخوته ووالديه وخروا له سجدا وتحققت رؤياه. سيرته: قبل أن نبدأ بقصة يوسف عليه السلام، نود الإشارة لعدة أمور. أولها اختلاف طريقة رواية قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم عن بقية قصص الأنبياء، فجاءت قصص الأنبياء في عدة سور، بينما جاءت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة. قال تعالى في سورة (يوسف): نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف) واختلف العلماء لم سميت هذه القصة أحسن القصص؟ قيل إنها تنفرد من بين قصص القرآن باحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم.. وقيل لأن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم وعفا عنهم.. وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والعفة والغواية، وسير الملوك والممالك، والرجال والنساء، وحيل النساء ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، وتعبير الرؤيا وتفسيرها، فهي سورة غنية بالمشاهد والانفعالات.. وقيل: إنها سميت أحسن القصص لأن مآل من كانوا فيها جميعا كان إلى السعادة. ومع تقديرنا لهذه الأسباب كلها.. نعتقد أن ثمة سببا مهما يميز هذه القصة.. إنها تمضي في خط واحد منذ البداية إلى النهاية.. يلتحم مضمونها وشكلها، ويفضي بك لإحساس عميق بقهر الله وغلبته ونفاذ أحكامه رغم وقوف البشر ضدها. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) هذا ما تثبته قصة يوسف بشكل حاسم، لا ينفي حسمه أنه تم بنعومة وإعجاز. لنمضي الآن بقصة يوسف -عليه السلام- ولنقسمها لعدد من الفصول والمشاهد ليسهل علينا تتبع الأحداث. المشهد الأول من فصل طفوله يوسف: ذهب يوسف الصبي الصغير لأبيه، وحكى له عن رؤيا رآها. أخبره بأنه رأى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين له. استمع الأب إلى رؤيا ابنه وحذره أن يحكيها لأخوته. فلقد أدرك يعقوب -عليه السلام- بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأنا عظيما لهذا الغلام. لذلك نصحه بأن لا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعورا ما وراءها لأخيهم الصغير -غير الشقيق، حيث تزوج يعقوب من امرأة ثانية أنجبت له يوسف وشقيقه- فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمرا يسوؤه. استجاب يوسف لتحذير أبيه.. لم يحدث أخوته بما رأى، وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلامه. المشهد الثاني: اجتمع أخوة يوسف يتحدثون في أمره. (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع، فأبونا مخطئ في تفضيل هذين الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين! فاقترح أحدهم حلا للموضوع: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا). إنه الحقد وتدخل الشيطان الذي ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم حتى جعله يوازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله. وطرحه في أرض بعيدة نائية مرادف للقتل، لأنه سيموت هناك لا محاله. ولماذا هذا كله؟! حتى لا يراه أبوه فينساه فيوجه حبه كله لهم. ومن ثم يتوبون عن جريمتهم (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). قال قائل منهم -حرك الله أعماقه بشفقة خفية، أو أثار الله في أعماقه رعبا من القتل: ما الداعي لقتله؟ إن كنتم تريدون الخلاص منه، فلنلقه في بئر تمر عليها القوافل.. ستلتقطه قافلة وترحل به بعيدا.. سيختفي عن وجه أبيه.. ويتحقق غرضنا من إبعاده. انهزمت فكرة القتل، واختيرت فكرة النفي والإبعاد. نفهم من هذا أن الأخوة، رغم شرهم وحسدهم، كان في قلوبهم، أو في قلوب بعضهم، بعض خير لم يمت بعد. المشهد الثالث: توجه الأبناء لأبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم. دار الحوار بينهم وبين أبيهم بنعومة وعتاب خفي، وإثارة للمشاعر.. مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ..؟ أيمكن أن يكون يوسف أخانا، وأنت تخاف عليه من بيننا ولا تستأمننا عليه، ونحن نحبه وننصح له ونرعاه؟ لماذا لا ترسله معنا يرتع ويلعب؟ وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب عليه السلام ينفي -بطريقة غير مباشرة- أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ . ففندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله.. نحن عشرة من الرجال.. فهل نغفل عنه ونحن كثرة؟ نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك.. لن يأكله الذئب ولا داعي للخوف عليه. وافق الأب تحت ضغط أبنائه.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته!
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#25
|
|||||
|
|||||
المشهد الرابع: خرج الأخوة ومعهم يوسف، وأخذوه للصحراء. اختاروا بئرا لا ينقطع عنها مرور القوافل وحملوه وهموا بإلقائه في البئر.. وأوحى الله إلى يوسف أنه ناج فلا يخاف.. وأنه سيلقاهم بعد يومهم هذا وينبئهم بما فعلوه. المشهد الخامس: عند العشاء جاء الأبناء باكين ليحكوا لأبيهم قصة الذئب المزعومة. أخبروه بأنهم ذهبوا يستبقون، فجاء ذئب على غفلة، وأكل يوسف. لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها من المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب دليلا على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ونسوا في انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف.. جاءوا بالقميص كما هو سليما، ولكن ملطخا بالدم.. وانتهى كلامهم بدليل قوي على كذبهم حين قالوا: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله. أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما، وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ المشهد الأخير من الفصل الأول من حياة سيدنا يوسف عليه السلام: أثناء وجود يوسف بالبئر، مرت عليه قافلة.. قافلة في طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلا حتى سميت سيارة.. توقفوا للتزود بالماء.. وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه.. تعلق يوسف به.. ظن من دلاه أنه امتلأ بالماء فسحبه.. ففرح بما رأى.. رأى غلاما متعلقا بالدلو.. فسرى على يوسف حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبدا لمن التقطه.. هكذا كان قانون ذلك الزمان البعيد. فرح به من وجده في البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبيا صغيرا.. وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد، دراهم معدودة. ومن هناك اشتراه رجل تبدو عليه الأهمية انتهت المحنة الأولى في حياة هذا النبي الكريم، لبتدأ المحنة الثانية، والفصل الثاني من حياته. ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف. ألقي في البئر، أهين، حرم من أبيه، التقط من البئر، صار عبدا يباع في الأسواق، اشتراه رجل من مصر، صار مملوكا لهذا الرجل.. انطبقت المأساة، وصار يوسف بلا حول ولا قوة.. هكذا يظن أي إنسان.. غير أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما. ما نتصور نحن أنه مأساة ومحنة وفتنة.. كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى مجده.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) .. ينفذ تدبيره رغم تدبير الآخرين. ينفذ من خلاله تدبير الآخرين فيفسده ويتحقق وعد الله، وقد وعد الله يوسف بالنبوة. وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي اشتراه.. وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وليس هذا السيد رجلا هين الشأن.. إنما هو رجل مهم.. رجل من الطبقة الحاكمة في مصر.. سنعلم بعد قليل أنه وزير من وزراء الملك. وزير خطير سماه القرآن "العزيز"، وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء. فهذا العزيز.. وهذا العادل.. وهذا القوي.. إلى آخره.. وأرجح الآراء أن العزيز هو رئيس وزراء مصر. وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض.. سيتربى كصبي في بيت رجل يحكم. وسيعلمه الله من تأويل الأحاديث والرؤى.. وسيحتاج إليه الملك في مصر يوما. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). تم هذا كله من خلال فتنة قاسية تعرض لها يوسف. ثم يبين لنا المولى عز وجل كرمه على يوسف فيقول: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) (يوسف) كان يوسف أجمل رجل في عصره.. وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه مزيدا من الجمال. وأوتي صحة الحكم على الأمور.. وأوتي علما بالحياة وأحوالها. وأوتي أسلوبا في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه.. وأوتي نبلا وعفة، جعلاه شخصية إنسانية لا تقاوم. وأدرك سيده أن الله قد أكرمه بإرسال يوسف إليه.. اكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته أمانة واستقامة وشهامة وكرما.. وجعله سيده مسئولا عن بيته وأكرمه وعامله كابنه. ويبدأ المشهد الأول من الفصل الثاني في حياته: في هذا المشهد تبدأ محنة يوسف الثانية، وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى. جاءته وقد أوتي صحة الحكم وأوتي العلم -رحمة من الله- ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه. يذكر الله تعالى هذه المحنة في كتابه الكريم: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) (يوسف) لا يذكر السياق القرآني شيئا عن سنها وسنه، فلننظر في ذلك من باب التقدير. لقد أحضر يوسف صبيا من البئر، كانت هي زوجة في الثلاثة والعشرين مثلا، وكان هو في الثانية عشرا. بعد ثلاثة عشر عاما صارت هي في السادسة والثلاثين ووصل عمره إلى الخامسة والعشرين. أغلب الظن أن الأمر كذلك. إن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها مكتملة جريئة. والآن، لنتدبر معنا في كلمات هذه الآيات. (وَرَاوَدَتْهُ) صراحة (عَن نَّفْسِهِ )، وأغلقت (الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ). لن تفر مني هذه المرة. هذا يعني أنه كانت هناك مرات سابقة فر فيها منها. مرات سابقة لم تكن الدعوة فيها بهذه الصراحة وهذا التعري. فيبدوا أن امرأة العزيز سئمت تجاهل يوسف لتلميحاتها المستمرة وإباءه.. فقررت أن تغير خطتها. خرجت من التلميح إلى التصريح.. أغلقت الأبواب ومزقت أقنعة الحياء وصرحت بحبها وطالبته بنفسه. ثم يتجاوزز السياق القرآني الحوار الذي دار بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام، ولنا أن نتصور كيف حاولت إغراءه إما بلباسها أو كلماتها أو حركاتها. لكن ما يهمنا هنا هو موقف يوسف -عليه السلام- من هذا الإغواء. يقف هذا النبي الكريم في وجه سيدته قائلا (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن. ولا يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه. ثم (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) اتفق المفسرون حول همها بالمعصية، واختلفوا حول همه. فمنهم من أخذ بالإسرائيليات وذكر أن يعقوب ظهر له، أو جبريل نزل إليه، لكن التلفيق والاختلاق ظاهر في هذه الزوايات الإسرائيلية. ومن قائل: إنها همت به تقصد المعصية وهم بها يقصد المعصية ولم يفعل، ومن قائل: إنها همت به لتقبله وهم بها ليضربها، ومن قائل: إن هذا الهم كان بينهما قبل الحادث. كان حركة نفسية داخل نفس يوسف في السن التي اجتاز فيها فترة المراهقة. ثم صرف الله عنه. وأفضل تفسير تطمئن إليه نفسي أن هناك تقديما وتأخيرا في الآية. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا). قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير. بمعنى ولقد همت به.. ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. يستقيم هذا التفسير مع عصمة الأنبياء.. كما يستقيم مع روح الآيات التي تلحقه مباشرة (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وهذه الآية التي تثبت أن يوسف من عباد الله المخلصين، تقطع في نفس الوقت بنجاته من سلطان الشيطان. قال تعالى لإبليس يوم الخلق (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) وما دام يوسف من عباده المخلصين، فقد وضح الأمر بالنسبة إليه. لا يعني هذا أن يوسف كان يخلو من مشاعر الرجولة، ولا يعني هذا أنه كان في نقاء الملائكة وعدم احتفالهم بالحس. إنما يعني أنه تعرض لإغراء طويل قاومه فلم تمل نفسه يوما، ثم أسكنها تقواها كونه مطلعا على برهان ربه، عارفا أنه يوسف بن يعقوب النبي، ابن إسحق النبي، ابن إبراهيم جد الأنبياء وخليل الرحمن. يبدو أن يوسف -عليه السلام- آثر الانصراف متجها إلى الباب حتى لا يتطور الأمر أكثر. لكن امرأة العزيز لحقت به لتمسكه، تدفهعا الشهوة لذلك. فأمسكت قميصه من الخلف، فتمزق في يدها. وهنا تقطع المفاجأة. فتح الباب زوجها -العزيز. وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضرا على السؤال البديهي الذي يطرح الموقف. فتقول متهمة الفتى: قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واقترحت هذه المراة -العاشقة- سريعا العقاب -المأمون- الواجب تنفيذه على يوسف، خشية أن يفتك به العزيز من شدة غضبه. بيّنت للعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن. بعد هذا الاتهام الباطل والحكم السريع جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسه: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي تجاوز السياق القرآني رد الزوج، لكنه بين كيفية تبرأة يوسف -عليه السلام- من هذه التهمة الباطلة: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) (يوسف) لا نعلم إن كان الشاهد مرافقا للزوج منذ البداية، أم أن العزيز استدعاه بعد الحادثة ليأخذ برأيه.. كما أشارت بعض الروايات أن هذا الشاهد رجل كبير، بينما أخبرت روايات أخرى أنه طفل رضيع. كل هذا جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئا. ما يذكره القرآن أن الشاهد أمرهم بالنظر للقميص، فإن كان ممزقا من الأمام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه ممزقا من الخلف فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) (يوسف) فتأكد الزوج من خيانة زوجته عندما رأى قميص يوسف ممزق من الخلف. لكن الدم لم يثر في عروقه ولم يصرخ ولم يغضب. فرضت عليه قيم الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن يواجه الموقف بلباقة وتلطف.. نسب ما فعلته إلى كيد النساء عموما. وصرح بأن كيد النساء عموم عظيم. وهكذا سيق الأمر كما لو كان ثناء يساق. ولا نحسب أنه يسوء المرأة أن يقال لها: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). فهو دلالة على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد. بعدها التفت الزوج إلى يوسف قائلا له: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا) أهمل هذا الموضوع ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به. هذا هو المهم.. المحافظة على الظواهر.. ثم يوجه عظة -مختصرة- للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصه: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ). انتهى الحادث الأول.. لكن الفتنة لم تنته.. فلم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها.. كل ما طلبه هو إغلاق الحديث في هذا الموضوع. غير أن هذا الموضوع بالذات. وهذا الأمر يصعب تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والخادمات والمستشارين والوصيفات. المشهد الثاني: بدأ الموضوع ينتشر.. خرج من القصر إلى قصور الطبقة الراقية يومها.. ووجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث. إن خلو حياة هذه الطبقات من المعنى، وانصرافها إلى اللهو، يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة.. وزاد حديث المدينة (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) وانتقل الخبر من فم إلى فم.. ومن بيت إلى بيت.. حتى وصل لامرأة العزيز. المشهد الثالث: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) (يوسف) عندما سمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء الطبقة العليا عنها، قررت أن تعد مأدبة كبيرة في القصر. وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات. واختارت ألوان الطعام والشراب وأمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم. ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) بهتن لطلعته، ودهشن. (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله.. (مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات التوحيد تسربت لأهل ذلك الزمان. ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها، والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين: انظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم، وإن لم يطعني سآمر بسجنه لأذلّه. إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية أما نساء طبقتها. فقالتها بكل إصرار وتبجح، قالتها مبيّنة أن الإغراء الجديد تحت التهديد. واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران. الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فلم يقل (ما تدعوني إليه).. والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ). أمام هذه الدعوات -سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات- استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) واستجاب له الله.. وصرف عنه كيد النسوة. وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى ما يحس في نفسه أثرا منه. أو بهما جميعا. وهكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته، فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء. ما انتهت المحنة الثانية إلا لتبدأ الثالثة.. لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة. يسجن يوسف عليه السلام والفصل الثالث من حياته: ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته، لتنسى القصة. قال تعالى في سورة (يوسف): ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) (يوسف) وهكذا ترسم الآية الموجزة جو هذا العصر بأكمله.. جو الفساد الداخلي في القصور، جو الأوساط الأرستقراطية.. وجو الحكم المطلق. إن حلول المشكلات في الحكم المطلق هي السجن.. وليس هذا بغريب على من يعبد آلهة متعددة. كانوا على عبادة غير الله.. ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره. وها نحن أولاء نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى الأنبياء. صدر قرارا باعتقاله وأدخل السجن. بلا قضية ولا محاكمة، ببساطة ويسر.. لا يصعب في مجتمع تحكمه آلهة متعددة أن يسجن بريء. بل لعل الصعوبة تكمن في محاولة شيء غير ذلك. دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ الأعصاب أقرب إلى الفرح لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها، وثرثرة وتطفلات الخدم. كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه. ويبين لنا القرآن الكريم المشهد الأول من هذا الفصل: يختصر السياق القرآني ما كان من أمر يوسف في السجن.. لكن الواضح أن يوسف -عليه السلام- انتهز فرصة وجوده في السجن، ليقوم بالدعوة إلى الله. مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك. انتهز يوسف -عليه السلام- هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه لمخلوقاته، كان يسأل الناس: أيهما أفضل.. أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين.. أم ينتصر العقل ويعبد رب الكون العظيم؟ وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة وحواره الذكي وصفاء ذهنه، ونقاء دعوته. وفي أحد الأيام، قَدِمَ له سجينان يسألانه تفسير أحلامهما، بعد أن توسما في وجهه الخير. إن أول ما قام به يوسف -عليه السلام- هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علما خاصا، جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه. ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد، وتبيان ما هم عليه من الظلال. قام بكل هذا برفق ولطف ليدخل إلى النفوس بلا مقاومة. بعد ذلك فسر لهما الرؤى. بيّن لهما أن أحدها سيصلب، والآخر سينجو، وسيعمل في قصر الملك. لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء. وتروي بعض التفاسير أن هؤلاء الرجلين كانا يعملان في القصر، أحدهما طباخا، والآخر يسقي الناس، وقد اتهما بمحاولة تسميم الملك. أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك. لكن الرجل لم ينفذ الوصية. فربما ألهته حياة القصر المزدحمة يوسف وأمره. فلبث في السجن بضع سنين. أراد الله بهذا أن يعلم يوسف -عليه السلام- درسا. فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال: يا يوسف من نجّاك من إخوتك؟ قال: الله. قال: من أنقذك من الجب؟ قال: الله. قال: من حررك بعد أن صرت عبدا؟ قال: الله. قال: من عصمك من النساء؟ قال: الله. قال: فعلام تطلب النجاة من غيره؟ وقد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله عليه واصطفاءه له، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. المشهد الثاني: في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول.. التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء.. من محنة العبودية والرق لمحنة السلطة والملك. في قصر الحكم.. وفي مجلس الملك: يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها. (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) لكن المستشارين والكهنة لم يقوموا بالتفسير. ربما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها، أو أنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك، وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية -التي تعودت على قول كل ما يسر الملك فقط. وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلام مختلطة ببعضها البعض، ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها. المشهد الثالث: وصل الخبر إلى الساقي -الذي نجا من السجن.. تداعت أفكاره وذكره حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن، وذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه. وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف. قال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك. وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف. ويبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها، لأنه هنا بصدد تفسير حلم، وهو يريد أن يكون التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك. وكان الساقي يسمي يوسف بالصديق، أي الصادق الكثير الصدق.. وهذا ما جربه من شأنه من قبل. جاء الوقت واحتاج الملك إلى رأي يوسف.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). سُئِلَ يوسف عن تفسير حلم الملك.. فلم يشترط خروجه من السجن مقابل تفسيره. لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا.. هكذا ببراءة النبي حين يلجأ إليه الناس فيغيثهم.. وإن كان هؤلاء أنفسهم سجانيه وجلاديه. لم يقم يسوف -عليه السلام- بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا. وإنما قدم مع التفسير النصح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر. أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات. وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع. لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون، وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو. بهذا انتهى حلم الملك.. وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك، عام من الرخاء. عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا، وينمو سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا. كان هذا العام الذي لا يقابله رمز في حلم الملك. علما خاصا أوتيه يوسف. فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس. المشهد الرابع: عاد الساقي إلى الملك. أخبره بما قال يوسف، دهش الملك دهشة شديدة. ما هذا السجين..؟ إنه يتنبأ لهم بما سيقع، ويوجههم لعلاجه.. دون أن ينتظر أجرا أو جزاء. أو يشترط خروجا أو مكافأة. فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه. ذهب رسول الملك إلى السجن. ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون. ذهب إليه في سجنه. رجا منه أن يخرج للقاء الملك.. فهو يطلبه على عجل. رفض يوسف أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. ويظهر أثر التربية واضحا في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيدهن، الفارق بين الموقفين كبير. المشهد الخامس: تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله، وردة فعل الملك. ليقف بنا أمام المحاكة. وسؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعلنه مع يوسف. يبدوا أن الملك سأل عن القصة ليكون على بينة من الظروف قبل أن يبدأ التحقيق، لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء. فاعترف النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ). وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء بصراحة. يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز، بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر عميقة (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) شهادة كاملة بإثمها هي، وبراءته ونظافته وصدقه هو. شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي اعتبار آخر.. يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله. حرصها على أن يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها الأنثوية، ولم يعبأ بفتنتها الجسدية. ومحاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه. لا تريده أن يستمر على تعاليه واحتقاره لها كخاطئة. تريد أن تصحح فكرته عنها: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). لست بهذا السوء الذي يتصوره فيني. ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ). وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). إن تأمل الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف. تحولت إلى التوحيد. إن سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها. آمنت بربه واعتنقت ديانته. ويصدر الأمر الملكي بالإفراج عنه وإحضاره. يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما، يسقطها من المشاهد، فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف. وقد لعبت الأساطير دورها في قصة المرأة.. قيل: إن زوجها مات وتزوجت من يوسف، فاكتشف أنها عذراء، واعترفت له أن زوجها كان شيخا لا يقرب النساء.. وقيل: إن بصرها ضاع بسبب استمرارها في البكاء على يوسف، خرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة، فلما صار يوسف كبيرا للوزراء، ومضى موكبه يوما هتفت به امرأة ضريرة تتكفف الناس: سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بالطاعة. سأل يوسف: صوت من هذا؟ قيل له: امرأة العزيز. انحدر حالها بعد عز. واستدعاها يوسف وسألها: هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا؟ قالت: نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف.. ناولني نهاية سوطك. فناولها. فوضعته على صدرها، فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها. وقيلت أساطير أخرى، يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية وهي تنسج قمة الدراما بانهيار العاشقة إلى الحضيض.. غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة. أغفلها من سياق القصة، بعد أن شهدت ليوسف.. وهذا يخدم الغرض الديني في القصة، فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة.. وهذا أيضا يخدم الغرض الفني.. لقد ظهرت المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب.. اختفت في قمة مأساتها.. وشاب اختفاءها غموض فني معجز.. ولربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية قصتها.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#26
|
|||||
|
|||||
ويبدأ فصل جديد من فصول حياة يوسف عليه السلام: بعد ما رأى الملك من أمر يوسف. براءته، وعلمه، وعدم تهافته على الملك. عرف أنه أمام رجل كريم، فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه، وإنما طلبه ليكون مستشاره. وعندما جلس معه وكلمه، تحقق له صدق ما توسمه فيه. فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده. فماذا قال يوسف؟ لم يغرق الملك شكرا، ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يفعل المتملقون للطواغيت؛ كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الازمة القادمة. كما وأورد القرطبي في تفسيره. أن الملك قال فيما قاله: لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا الأمر.. ولم يكونوا فيه أمناء. كان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات.. إن العثور على الأمانة في الطبقة المترفة شديد الصعوبة. اعتراف الملك ليوسف بهذه الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا الامر، لأنقاذ مصر وما حولها من البلاد من هذه المجاعة.. قال يوسف: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). لم يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الاستفادة. على العكس من ذلك. كان يحتمل أمانة إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات.. شعوب يمكن أن تمزق حكامها لو جاعت.. كان الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف. لا يثبت السياق القرآني أن الملك وافق.. فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن الموافقة.. زيادة في تكريم يوسف، وإظهار مكانته عند الملك.. يكفي أن يقول ليجاب.. بل ليكون قوله هو الجواب، ومن ثم يحذف رد الملك.. ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن يوسف قد صار في المكان الذي اقترحه. وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض.. صار مسؤولا عن خزائن مصر واقتصادها.. صار كبيرا للوزراء.. وجاء في رواية أن الملك قال ليوسف: يا يوسف ليس لي من الحكم إلا الكرسي.. ولا ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف يوسف في مصر.. نعرف أنه حكيم عليم.. نعرف أنه أمين وصادق.. لا خوف إذا على اقتصاد مصر. المشهد الثاني من هذا الفصل: دارت عجلة الزمن.. طوى السياق دورتها، ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء، وجاءت سنوات المجاعة.. وهنا يغفل السياق القرآني بعد ذلك ذكر الملك والوزراء في السورة كلها.. كأن الأمر كله قد صار ليوسف. الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة. وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث, وسلط عليه كل الأضواء. أما فعل الجدب والمجاعة فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف, يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر. ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة, كما كيف صارت مصر - بتدبير يوسف - محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها. لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها. فاتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر. وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان. فدخلوا على عزيز مصر, وهم لا يعلمون أن أخاهم هو العزيز. إنه يعرفهم فهم لم يتغيروا كثيرا. أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه العزيز! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه? ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه. فلا بد من دروس يتلقونها: (فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ). ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا, ثم أخذ في إعداد الدرس الأول: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ). فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه, واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل, وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه. فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم: إنه يريد أن يرى أخاهم هذا. (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ). وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين. فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم; ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود: (أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ). ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر - وبخاصة بعد ذهاب يوسف - فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسورا, وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم, وأنهم سيحاولون إقناعه, مع توكيد عزمهم - على الرغم من هذه العقبات - على إحضاره معهم حين يعودون: (قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ). ولفظ (نراود) يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه. أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف. وقد تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي, ومن الجلود وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق. أمر غلمانه بدسها في رحالهم - والرحل متاع المسافر - لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها. المشهد الثالث: ندع يوسف في مصر . لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان. رجع الأخوة إلى أبيهم.. وقبل أن ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم، دخلوا على أبيهم. قائلين له بعتاب: إن لم ترسل معنا أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز مصر الطعام. وختموا كلامهم بوعد جديد ليعقوب عليه السلام (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهز بما أثاره الوعد من شجونه: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) (يوسف) وفتح الأبناء أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال.. فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها.. مردودة إليهم مع الغلال والطعام.. ورد الثمن يشير إلى عدم الرغبة في البيع، أو هو إنذار بذلك.. وربما كان إحراجا لهم ليعودوا لسداد الثمن مرة أخرى. وأسرع الأبناء إلى أبيهم (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) ..لم نكذب عليك.. لقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا نشتري به. هذا معناه أنهم لن يبيعوا لنا إلا إذا ذهب أخونا معنا. واستمر حوارهم مع الأب.. أفهموه أن حبه لابنه والتصاقه به يفسدان مصالحهم، ويؤثران على اقتصادهم، وهم يريدون أن يتزودوا أكثر، وسوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه.. وانتهى الحوار باستسلام الأب لهم.. بشرط أن يعاهدوه على العودة بابنه، إلا إذا خرج الأمر من أيديهم وأحيط بهم.. نصحهم الأب ألا يدخلوا -وهم أحد عشر رجلا- من باب واحد من أبواب بمصر.. كي لا يستلفتوا انتباه أحد.. وربما خشي عليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد.. لا يقول لنا السياق القرآني ماذا كان الأب يخشى، ولو كان الكشف عن السبب مهما لقيل.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#27
|
|||||
|
|||||
إبراهيم عليه السلام نبذة: هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعل الله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل. سيرته: منزلة إبراهيم عليه السلام: هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان. وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه. وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولاده وأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم. ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب. يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا. حال المشركين قبل بعثة إبراهيم: يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات: فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية. وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر. وفئة تعبد الملوك والحكام. نشأة إبراهيم عليه السلام: وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة. رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة. من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار. مرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#28
|
|||||
|
|||||
إبراهيم عليه السلام نبذة: هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعل الله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل. سيرته: منزلة إبراهيم عليه السلام: هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان. وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه. وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولاده وأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم. ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب. يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا. حال المشركين قبل بعثة إبراهيم: يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات: فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية. وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر. وفئة تعبد الملوك والحكام. نشأة إبراهيم عليه السلام: وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة. رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة. من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار. مرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#29
|
|||||
|
|||||
صالح عليه السلام نبذة: أرسله الله إلى قوم ثمود وكانوا قوما جاحدين آتاهم الله رزقا كثيرا ولكنهم عصوا ربهم وعبدوا الأصنام وتفاخروا بينهم بقوتهم فبعث الله إليهم صالحا مبشرا ومنذرا ولكنهم كذبوه وعصوه وطالبوه بأن يأتي بآية ليصدقوه فأتاهم بالناقة وأمرهم أن لا يؤذوها ولكنهم أصروا على كبرهم فعقروا الناقة وعاقبهم الله بالصاعقة فصعقوا جزاء لفعلتهم ونجى الله صالحا والمؤمنين سيرته: إرسال صالح عليه السلام لثمود: جاء قوم ثمود بعد قوم عاد، وتكررت قصة العذاب بشكل مختلف مع ثمود. كانت ثمود قبيلة تعبد الأصنام هي الأخرى، فأرسل الله سيدنا "صالحا" إليهم.. وقال صالح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) نفس الكلمة التي يقولها كل نبي.. لا تتبدل ولا تتغير، كما أن الحق لا يتبدل ولا يتغير. فوجئ الكبار من قوم صالح بما يقوله.. إنه يتهم آلهتهم بأنها بلا قيمة، وهو ينهاهم عن عبادتها ويأمرهم بعبادة الله وحده. وأحدثت دعوته هزة كبيرة في المجتمع.. وكان صالح معروفا بالحكمة والنقاء والخير. كان قومه يحترمونه قبل أن يوحي الله إليه ويرسله بالدعوة إليهم.. وقال قوم صالح له: قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) (هود) تأمل وجهة نظر الكافرين من قوم صالح. إنهم يدلفون إليه من باب شخصي بحت. لقد كان لنا رجاء فيك. كنت مرجوا فينا لعلمك وعقلك وصدقك وحسن تدبيرك، ثم خاب رجاؤنا فيك.. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟! يا للكارثة.. كل شيء يا صالح إلا هذا. ما كنا نتوقع منك أن تعيب آلهتنا التي وجدنا آبائنا عاكفين عليها.. وهكذا يعجب القوم مما يدعوهم إليه. ويستنكرون ما هو واجب وحق، ويدهشون أن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده. لماذا؟ ما كان ذلك كله إلا لأن آبائهم كانوا يعبدون هذه الآلهة. معجزة صالح عليه السلام: ورغم نصاعة دعوة صالح عليه الصلاة والسلام، فقد بدا واضحا أن قومه لن يصدقونه. كانوا يشكون في دعوته، واعتقدوا أنه مسحور، وطالبوه بمعجزة تثبت أنه رسول من الله إليهم. وشاءت إرادة الله أن تستجيب لطلبهم. وكان قوم ثمود ينحتون من الجبال بيوتا عظيمة. كانوا يستخدمون الصخر في البناء، وكانوا أقوياء قد فتح الله عليهم رزقهم من كل شيء. جاءوا بعد قوم عاد فسكنوا الأرض التي استعمروها. قال صالح لقومه حين طالبوه بمعجزة ليصدقوه: وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) (هود) والآية هي المعجزة، ويقال إن الناقة كانت معجزة لأن صخرة بالجبل انشقت يوما وخرجت منها الناقة.. ولدت من غير الطريق المعروف للولادة. ويقال إنها كانت معجزة لأنها كانت تشرب المياه الموجودة في الآبار في يوم فلا تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا اليوم، وقيل إنها كانت معجزة لأنها كانت تدر لبنا يكفي لشرب الناس جميعا في هذا اليوم الذي تشرب فيه الماء فلا يبقى شيء للناس. كانت هذه الناقة معجزة، وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: (نَاقَةُ اللّهِ) أضافها لنفسه سبحانه بمعنى أنها ليست ناقة عادية وإنما هي معجزة من الله. وأصدر الله أمره إلى صالح أن يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو إيذائها أو قتلها، أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وألا يمسوها بسوء، وحذرهم أنهم إذا مدوا أيديهم بالأذى للناقة فسوف يأخذهم عذاب قريب. في البداية تعاظمت دهشة ثمود حين ولدت الناقة من صخور الجبل.. كانت ناقة مباركة. كان لبنها يكفي آلاف الرجال والنساء والأطفال. كان واضحا إنها ليست مجرد ناقة عادية، وإنما هي آية من الله. وعاشت الناقة بين قوم صالح، آمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على العناد والكفر. وذلك لأن الكفار عندما يطلبون من نبيهم آية، ليس لأنهم يريدون التأكد من صدقه والإيمان به، وإنما لتحديه وإظهار عجزه أمام البشر. لكن الله كان يخذلهم بتأييد أنبياءه بمعجزات من عنده. كان صالح عليه الصلاة والسلام يحدث قومه برفق وحب، وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينبههم إلى أن الله قد أخرج لهم معجزة هي الناقة، دليلا على صدقه وبينة على دعوته. وهو يرجو منهم أن يتركوا الناقة تأكل في أرض الله، وكل الأرض أرض الله. وهو يحذرهم أن يمسوها بسوء خشية وقوع عذاب الله عليهم. كما ذكرهم بإنعام الله عليهم: بأنه جعلهم خلفاء من بعد قوم عاد.. وأنعم عليهم بالقصور والجبال المنحوتة والنعيم والرزق والقوة. لكن قومه تجاوزوا كلماته وتركوه، واتجهوا إلى الذين آمنوا بصالح. يسألونهم سؤال استخفاف وزراية: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ؟! قالت الفئة الضعيفة التي آمنت بصالح: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فأخذت الذين كفروا العزة بالإثم.. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ . هكذا باحتقار واستعلاء وغضب.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#30
|
|||||
|
|||||
هود عليه السلام نبذة: أرسل إلى قوم عاد الذين كانوا بالأحقاف، وكانوا أقوياء الجسم والبنيان وآتاهم الله الكثير من رزقه ولكنهم لم يشكروا الله على ما آتاهم وعبدوا الأصنام فأرسل لهم الله هودا نبيا مبشرا، كان حكيما ولكنهم كذبوه وآذوه فجاء عقاب الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية استمرت سبع ليال وثمانية أيام. سيرته: عبادة الناس للأصنام: بعد أن ابتلعت الأرض مياه الطوفان الذي أغرق من كفر بنوح عليه السلام، قام من آمن معه ونجى بعمارة الأرض. فكان كل من على الأرض في ذلك الوقت من المؤمنين. لم يكن بينهم كافر واحد. ومرت سنوات وسنوات. مات الآباء والأبناء وجاء أبناء الأبناء. نسى الناس وصية نوح، وعادت عبادة الأصنام. انحرف الناس عن عبادة الله وحده، وتم الأمر بنفس الخدعة القديمة. قال أحفاد قوم نوح: لا نريد أن ننسى آبائنا الذين نجاهم الله من الطوفان. وصنعوا للناجين تماثيل ليذكروهم بها، وتطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل، فإذا الأمر ينقلب إلى العبادة، وإذا بالتماثيل تتحول بمكر من الشيطان إلى آلهة مع الله. وعادت الأرض تشكو من الظلام مرة ثانية. وأرسل الله سيدنا هودا إلى قومه. إرسال هود عليه السلام: كان "هود" من قبيلة اسمها "عاد" وكانت هذه القبيلة تسكن مكانا يسمى الأحقاف.. وهو صحراء تمتلئ بالرمال، وتطل على البحر. أما مساكنهم فكانت خياما كبيرة لها أعمدة شديدة الضخامة والارتفاع، وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في قوة الأجسام، والطول والشدة.. كانوا عمالقة وأقوياء، فكانوا يتفاخرون بقوتهم. فلم يكن في زمانهم أحد في قوتهم. ورغم ضخامة أجسامهم، كانت لهم عقول مظلمة. كانوا يعبدون الأصنام، ويدافعون عنها، ويحاربون من أجلها، ويتهمون نبيهم ويسخرون منه. وكان المفروض، ما داموا قد اعترفوا أنهم أشد الناس قوة، أن يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة. قال لهم هود نفس الكلمة التي يقولها كل رسول. لا تتغير ولا تنقص ولا تتردد ولا تخاف ولا تتراجع. كلمة واحدة هي الشجاعة كلها، وهي الحق وحده (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ). وسأله قومه: هل تريد أن تكون سيدا علينا بدعوتك؟ وأي أجر تريده؟ إن هذه الظنون السئية تتكرر على ألسنة الكافرين عندما يدعوهم نبيهم للإيمان بالله وحده. فعقولهم الصغيرة لا تتجاوز الحياة الدنيوية. ولا يفكروا إلا بالمجد والسلطة والرياسة. أفهمهم هود أن أجره على الله، إنه لا يريد منهم شيئا غير أن يغسلوا عقولهم في نور الحقيقة. حدثهم عن نعمة الله عليهم، كيف جعلهم خلفاء لقوم نوح، كيف أعطاهم بسطة في الجسم، وشدة في البأس، كيف أسكنهم الأرض التي تمنح الخير والزرع. كيف أرسل عليهم المطر الذي يحيى به الأرض. وتلفت قوم هود حولهم فوجدوا أنهم أقوى من على الأرض، وأصابتهم الكبرياء وزادوا في العناد. قالوا لهود: كيف تتهم آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدونها؟ قال هود: كان آباؤكم مخطئين. قال قوم هود: هل تقول يا هود إننا بعد أن نموت ونصبح ترابا يتطاير في الهواء، سنعود إلى الحياة؟ قال هود: ستعودون يوم القيامة، ويسأل الله كل واحد فيكم عما فعل. انفجرت الضحكات بعد هذه الجملة الأخيرة. ما أغرب ادعاء هود. هكذا تهامس الكافرون من قومه. إن الإنسان يموت، فإذا مات تحلل جسده، فإذا تحلل جسده تحول إلى تراب، ثم يهب الهواء ويتطاير التراب. كيف يعود هذا كله إلى أصله؟! ثم ما معنى وجود يوم للقيامة؟ لماذا يقوم الأموات من موتهم؟ استقبل هود كل هذه الأسئلة بصبر كريم.. ثم بدأ يحدث قومه عن يوم القيامة.. أفهمهم أن إيمان الناس بالآخرة ضرورة تتصل بعدل الله، مثلما هي ضرورة تتصل بحياة الناس. قال لهم ما يقوله كل نبي عن يوم القيامة. إن حكمة الخالق المدبر لا تكتمل بمجرد بدء الخلق، ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض. إن هذه الحياة اختبار، يتم الحساب بعدها. فليست تصرفات الناس في الدنيا واحدة، هناك من يظلم، وهناك من يقتل، وهناك من يعتدي.. وكثيرا ما نرى الظالمين يذهبون بغير عقاب، كثيرا ما نرى المعتدين يتمتعون في الحياة بالاحترام والسلطة. أين تذهب شكاة المظلومين؟ وأين يذهب ألم المضطهدين؟ هل يدفن معهم في التراب بعد الموت؟ إن العدالة تقتضي وجود يوم للقيامة. إن الخير لا ينتصر دائما في الحياة. أحيانا ينظم الشر جيوشه ويقتل حملة الخير. هل تذهب هذه الجريمة بغير عقاب؟ إن ظلما عظيما يتأكد لو افترضنا أن يوم القيامة لن يجئ. ولقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده. ومن تمام العدل وجود يوم للقيامة والحساب والجزاء. ذلك أن يوم القيامة هو اليوم الذي تعاد فيه جميع القضايا مرة أخرى أمام الخالق، ويعاد نظرها مرة أخرى. ويحكم فيها رب العالمين سبحانه. هذه هي الضرورة الأولى ليوم القيامة، وهي تتصل بعدالة الله ذاته. وثمة ضرورة أخرى ليوم القيامة، وهي تتصل بسلوك الإنسان نفسه. إن الاعتقاد بيوم الدين، والإيمان ببعث الأجساد، والوقوف للحساب، ثم تلقي الثواب والعقاب، ودخول الجنة أو النار، هذا شيء من شأنه أن يعلق أنظار البشر وقلوبهم بعالم أخر بعد عالم الأرض، فلا تستبد بهم ضرورات الحياة، ولا يستعبدهم الطمع، ولا تتملكهم الأنانية، ولا يقلقهم أنهم لم يحققوا جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وبذلك يسمو الإنسان على الطين الذي خلق منه إلى الروح الذي نفخه ربه فيه. ولعل مفترق الطريق بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها، والتعلق بقيم الله العليا، والانطلاق اللائق بالإنسان، يكمن في الإيمان بيوم القيامة. حدثهم هود بهذا كله فاستمعوا إليه وكذبوه. قالوا له هيهات هيهات.. واستغربوا أن يبعث الله من في القبور، استغربوا أن يعيد الله خلق الإنسان بعد تحوله إلى التراب، رغم أنه خلقه من قبل من التراب. وطبقا للمقاييس البشرية، كان ينبغي أن يحس المكذبون للبعث أن إعادة خلق الإنسان من التراب والعظام أسهل من خلقه الأول. لقد بدأ الله الخلق فأي صعوبة في إعادته؟! إن الصعوبة -طبقا للمقياس البشري- تكمن في الخلق. وليس المقياس البشري غير مقياسٍ بشري ينطبق على الناس، أما الله، فليست هناك أمور صعبة أو سهلة بالنسبة إليه سبحانه، تجري الأمور بالنسبة إليه سبحانه بمجرد الأمر.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#31
|
|||||
|
|||||
نوح عليه السلام نبذة: كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الآخرة ولكنهم عصوه وكذبوه، ومع ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس، واستمر الكفرة في طغيانهم فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم، وأخذ يدعوهم 950 سنة ثم أمره الله ببناء السفينة وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين. سيرته: حال الناس قبل بعثة نوح: قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح، عاشوا زمنا ثم ماتوا، كانت أسماء الرجال الخمسة هي: (ودَّ، سُواع، يغوث، يعوق، نسرا). بعد موتهم صنع الناس لهم تماثيل في مجال الذكرى والتكريم، ومضى الوقت.. ومات الذين نحتوا التماثيل.. وجاء أبنائهم.. ومات الأبناء وجاء أبناء الأبناء.. ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة.. واستغل إبليس الفرصة، وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر.. وبدأ الناس يعبدون هذه التماثيل. إرسال نوح عليه السلام: كان نوح كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى قبل بعثته إلى الناس. وكل الأنبياء مؤمنون بالله تعالى قبل بعثتهم. وكان كثير الشكر لله عزّ وجلّ. فاختاره الله لحمل الرسالة. فخرج نوح على قومه وبدأ دعوته: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بهذه الجملة الموجزة وضع نوح قومه أمام حقيقة الألوهية.. وحقيقة البعث. هناك إله خالق وهو وحده الذي يستحق العبادة.. وهناك موت ثم بعث ثم يوم للقيامة. يوم عظيم، فيه عذاب يوم عظيم.شرح "نوح" لقومه أنه يستحيل أن يكون هناك غير إله واحد هو الخالق. أفهمهم أن الشيطان قد خدعهم زمنا طويلا، وأن الوقت قد جاء ليتوقف هذا الخداع، حدثهم نوح عن تكريم الله للإنسان. كيف خلقه، ومنحه الرزق وأعطاه نعمة العقل، وليست عبادة الأصنام غير ظلم خانق للعقل. تحرك قوم نوح في اتجاهين بعد دعوته. لمست الدعوة قلوب الضعفاء والفقراء والبؤساء، وانحنت على جراحهم وآلامهم بالرحمة.. أما الأغنياء والأقوياء والكبراء، تأملوا الدعوة بعين الشك… ولما كانوا يستفيدون من بقاء الأوضاع على ما هي عليه.. فقد بدءوا حربهم ضد نوح. في البداية اتهموا نوحا بأنه بشر مثلهم: فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا قال تفسير القرطبي: الملأ الذين كفروا من قومه هم الرؤساء الذين كانوا في قومه. يسمون الملأ لأنهم مليئون بما يقولون. قال هؤلاء الملأ لنوح: أنت بشر يا نوح. رغم أن نوحا لم يقل غير ذلك، وأكد أنه مجرد بشر.. والله يرسل إلى الأرض رسولا من البشر، لأن الأرض يسكنها البشر، ولو كانت الأرض تسكنها الملائكة لأرسل الله رسولا من الملائكة.. استمرت الحرب بين الكافرين ونوح. في البداية، تصور الكفرة يومها أن دعوة نوح لا تلبث أن تنطفئ وحدها، فلما وجدوا الدعوة تجتذب الفقراء والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية. هاجموه في أتباعه، وقالوا له: لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والأراذل. هكذا اندلع الصراع بين نوح ورؤساء قومه. ولجأ الذين كفروا إلى المساومة. قالوا لنوح: اسمع يا نوح. إذا أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك. إنهم ضعفاء وفقراء، ونحن سادة القوم وأغنياؤهم.. ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلاء. واستمع نوح إلى كفار قومه وأدرك أنهم يعاندون، ورغم ذلك كان طيبا في رده. أفهم قومه أنه لا يستطيع أن يطرد المؤمنين، لأنهم أولا ليسوا ضيوفه، إنما هم ضيوف الله.. وليست الرحمة بيته الذي يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء، إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه من يشاء. كان نوح يناقش كل حجج الكافرين بمنطق الأنبياء الكريم الوجيه. وهو منطق الفكر الذي يجرد نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح الخاصة. قال لهم إن الله قد آتاه الرسالة والنبوة والرحمة. ولم يروا هم ما آتاه الله، وهو بالتالي لا يجبرهم على الإيمان برسالته وهم كارهون. إن كلمة لا إله إلا الله لا تفرض على أحد من البشر. أفهمهم أنه لا يطلب منهم مقابلا لدعوته، لا يطلب منهم مالا فيثقل عليهم، إن أجره على الله، هو الذي يعطيه ثوابه. أفهمهم أنه لا يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله، وأن له حدوده كنبي. وحدوده لا تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين: أنهم سيلقون الله مؤمنين به فكيف يطرد مؤمنا بالله؟ ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله، ويجازي من طردهم، فمن الذي ينصر نوحا من الله لو طردهم؟ وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل منهم. وعاد نوح يقول لهم أنه لا يدعى لنفسه أكثر مما له من حق، وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز وجل، فهو لا يدعي لنفسه ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء من عباده، وهو لا يعلم الغيب، لأن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به. أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا. بمعنى أن منزلته ليست كمنزلة الملائكة.. قال لهم نوح: إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر وتستثقل.. إن هؤلاء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لاحتقاركم لهم، الله أعلم بما في أنفسهم. هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به.. أظلم نفسي لو قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا. وسئم الملأ يومها من هذا الجدل الذي يجادله نوح.. حكى الله موقفهم منه في سورة (هود): قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) (هود) أضاف نوح إغواءهم إلى الله تعالى. تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال. غير أنهم استحقوا الضلال بموقفهم الاختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم.. فالإنسان صانع لأفعاله ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه. بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة الإنسان عن أفعاله. كل ما في الأمر أن الله ييسر كل مخلوق لما خلق له، سواء أكان التيسير إلى الخير أم إلى الشر.. وهذا من تمام الحرية وكمالها. يختار الإنسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما اختاره. اختار كفار قوم نوح طريق الغواية فيسره الله لهم. وتستمر المعركة، وتطول المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج الكافرين ولم يعد لديهم ما يقال، بدءوا يخرجون عن حدود الأدب ويشتمون نبي الله: قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) (الأعراف) ورد عليهم نوح بأدب الأنبياء العظيم: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) (الأعراف) ويستمر نوح في دعوة قومه إلى الله. ساعة بعد ساعة. ويوما بعد يوم. وعاما بعد عام. ومرت الأعوام ونوح يدعو قومه. كان يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، يضرب لهم الأمثال. ويشرح لهم الآيات ويبين لهم قدرة الله في الكائنات، وكلما دعاهم إلى الله فروا منه، وكلما دعاهم ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق. واستمر نوح يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما. وكان يلاحظ أن عدد المؤمنين لا يزيد، بينما يزيد عدد الكافرين. وحزن نوح غير أنه لم يفقد الأمل، وظل يدعو قومه ويجادلهم، وظل قومه على الكبرياء والكفر والتبجح. وحزن نوح على قومه. لكنه لم يبلغ درجة اليأس. ظل محتفظا بالأمل طوال 950 سنة. ويبدو أن أعمار الناس قبل الطوفان كانت طويلة، وربما يكون هذا العمر الطويل لنوح معجزة خاصة له. وجاء يوم أوحى الله إليه، أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. أوحى الله إليه ألا يحزن عليهم. ساعتها دعا نوح على الكافرين بالهلاك: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) (نوح) برر نوح دعوته بقوله: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (26) (نوح)
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#32
|
|||||
|
|||||
قصة سيدنا ادم عليه السلام أبو البشر، خلقه الله بيده وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء وخلق له زوجته وأسكنهما الجنة وأنذرهما أن لا يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فأكلا منها فأنزلهما الله إلى الأرض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك، وجعله خليفته في الأرض، وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول الأنبياء. خلق آدم عليه السلام: أخبر الله سبحانه وتعالى ملائكة بأنه سيخلق بشرا خليفة له في الأرض. فقال الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم تجارب سابقة في الأرض , أو إلهام وبصيرة , يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , ما يجعلهم يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده الغاية للوجود . . وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له, ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته ! هذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملائكة بعد معرفة خبر خلق آدم.. أمر جائز على الملائكة، ولا ينقص من أقدارهم شيئا، لأنهم، رغم قربهم من الله، وعبادتهم له، وتكريمه لهم، لا يزيدون على كونهم عبيدا لله، لا يشتركون معه في علمه، ولا يعرفون حكمته الخافية، ولا يعلمون الغيب . لقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة , وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا . عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء , والخبير بمصائر الأمور: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة . وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ، فلا نعلم عنهم سوى ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله . ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه . إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن . أدركت الملائكة أن الله سيجعل في الأرض خليفة.. وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم تفصيلا، فقال إنه سيخلق بشرا من طين، فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة أن تسجد له، والمفهوم أن هذا سجود تكريم لا سجود عبادة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده. جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر - ولهذا يجيء الناس ألوانا مختلفة - ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالا من حمأ مسنون. تعفن الطين وانبعثت له رائحة.. وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟ سجود الملائكة لآدم: من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم .. سواه بيديه سبحانه ، ونفخ فيه من روحه سبحانه .. فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة.. فتح آدم عينيه فرأى الملائكة كلهم ساجدين له .. ما عدا إبليس الذي كان يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم، لم يسجد .. فهل كان إبليس من الملائكة ? الظاهر أنه لا . لأنه لو كان من الملائكة ما عصى . فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وسيجيء أنه خلق من نار . والمأثور أن الملائكة خلق من نور . . ولكنه كان مع الملائكة وكان مأموراً بالسجود . أما كيف كان السجود ? وأين ? ومتى ? كل ذلك في علم الغيب عند الله . ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئاً.. فوبّخ الله سبحانه وتعالى إبليس: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) . فردّ بمنطق يملأه الحسد: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) . هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) وإنزال اللعنة عليه إلى يوم الدين. ولا نعلم ما المقصود بقوله سبحانه (مِنْهَا) فهل هي الجنة ? أم هل هي رحمة الله . . هذا وذلك جائز . ولا محل للجدل الكثير . فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم . قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) (ص) هنا تحول الحسد إلى حقد . وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب , وأن يمنحه الفرصة التي أراد. فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه حقده: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ويستدرك فيقول: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فليس للشيطان أي سلطان على عباد الله المؤمنين . وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه . إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين . لا يستثني إلا من ليس له عليهم سلطان . لا تطوعاً منه ولكن عجزاً عن بلوغ غايته فيهم ! وبهذا يكشف عن الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ; والعاصم الذي يحول بينهم وبينه . إنه عبادة الله التي تخلصهم لله . هذا هو طوق النجاة . وحبل الحياة ! . . وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره في الردى والنجاة . فأعلن - سبحانه - إرادته . وحدد المنهج والطريق: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) . فهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم , يخوضونها على علم . والعاقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان . وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين . فأرسل إليهم المنذرين .
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#33
|
|||||
|
|||||
**{محمد عليه الصلاة والسلام}} المــولــد: ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شروان، ويوافق ذلك العشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة 571م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فورى والمحقق الفلكي محمود باشا. وروى ابن سعد أن أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام. وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك. وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك البيهقي ولا يقره محمد الغزالي. في بني سعد: وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرضعاء، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر - وهي حليمة بنت أبي ذؤيب - وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة. وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبد اللَّه بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء - لقب غلب على اسمها) وكانت تحضن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعاً في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجهين، من جهة ثويبة، ومن جهة السعدية. ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروي ذلك مفصلاً قال ابن إسحاق كانت حليمة تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، واللَّه ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم. وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكره لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي واللَّه إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، واللَّه لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى اللَّه أن يجعل لنا بركة، قالت: فذهبت إليه، فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي واللَّه يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت واللَّه إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فواللَّه لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن بلى واللَّه إنها لهي هي، فيقلن: واللَّه إن لها شأناً، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض اللَّه أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من اللَّه الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا. وهكذا بقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم،ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. إلى أمه الحنون: وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين. ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متراً ومعها ولدها اليتيم - محمد صلى الله عليه وسلم - وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهراً ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، يلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة. إلى جده العطوف: وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنان في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني هذا فواللَّه إن له لشأناً، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه ويصنع. ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفى جده عبد المطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه. إلى عمه الشفيق: ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع م تامرالقناوى ابواحمد |
#34
|
||||||
|
||||||
رد: موضوع شامل لقصص الانبياء
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع مختار |
#35
|
||||||||
|
||||||||
رد: موضوع شامل لقصص الانبياء
سلمت يداك حبيبى باشمهندس تامر أبو أحمد وبارك الله فيك وجعلها الله فى ميزان حسناتك وتحياتى لك
----------------------------
مشاهدةجميع مواضيع على علول |
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
موضوع, لقصص, الانبياء, شامل |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع : موضوع شامل لقصص الانبياء | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
هام جدا قبل كتابه اي موضوع جديد عبر المنتدى | أبو مروان | المنتدى الفضائى العام | 7 | 2023/05/13 05:20 PM |
كنوز المعرف موضوع شامل عن جوجل | أبو مروان | المنتدى الفضائى العام | 6 | 2023/04/19 02:39 AM |